لم يكن صوتًا عابرًا أبدًا، بل كان له أثر عميق في قلوب العراقيين على مدى عقود طويلة.
في ذلك الزمن البعيد، كان جهاز الراديو هو وسيلتهم الوحيدة لاستكشاف العالم من حولهم، ثم انتقل الأمر إلى التلفاز وأشرطة التسجيل، التي جعلت صوته جزءًا لا يتجزأ من الهوية العراقية الحديثة.
رافقهم في شهر رمضان وفي جميع المناسبات الدينية، وكان حاضرًا في أحزانهم وذكرياتهم، فكان هذا الصوت الشجي هو العنوان البارز لفترة مهمة في تاريخ حياتهم الشخصية، إنه الحافظ خليل إسماعيل، أحد أشهر قراء القرآن الكريم في العراق.
مولد الحافظ خليل إسماعيل
ولد الشيخ المقرئ الحافظ خليل إسماعيل في سنة 1920م بمدينة بغداد جانب الكرخ وفي محلة سوق حمادة ومن أبوين مسلمين عربيين عراقيين ومن عائلة دينية معروفة بتقواها وتقاليدها الإسلامية.
حفظ القرآن الكريم قبل أن يتجاوز الـ12 من عمره، وأتقن علم القراءة وفنون التجويد على يد إمام الجامع السويدي الملاّ محمد ذويب.
مؤهلات الحافظ خليل إسماعيل العلمية
عند بلوغه سن الثالثة عشرة من عمره دخل المدرسة العلمية الدينية في جامع نائلة خاتون والتي كانت وقتذاك بإدارة الحاج نجم الدين الواعظ والشيخ قاسم القيسي رحمهما الله.
اختصت هذه المدرسة بتعليم أصول الفقه والحديث والتفسير والعقائد وقراءة القرآن وقد تخرج منها سنة 1943 للمرة الأولى ودخلها مرة ثانية سنة 1944 وتخرج منها سنة 1953م حيث نال الشهادة الدينية وكان الأول على أقرانه.
تأثر الشيخ حافظ إسماعيل بالملا جاسم محمد سلامة، الذي كان مدرسًا بارعًا لجميع القرّاء، من بينهم عبد الفتاح معروف.
أعمال الحافظ خليل إسماعيل ومناصبه
في عام 1937 ميلادية، تم تعيين الشيخ المقرئ الحافظ خليل إسماعيل في جامع السراي، حيث تولى رئاسة محفل القراء في جامع الإمام أبي حنيفة النعمان.
بدأ خليل إسماعيل بعدها رحلته في الخدمة الدينية، حيث انتقل إلى عدة جوامع، من بينها جامع الشيخ صندل وجامع شهاب الدين السهروردي. وكانت نهاية مسيرته في جامع البنية وفي مدرسة نائلة خاتون الدينية، حيث أدى دوره كمقرئ ومتعلم في الوقت نفسه.
في سنة 1941م تقدم الشيخ المقرئ المرحوم خليل إسماعيل ليكون مقرئاً في دار الإذاعة – حيث أختبر مقرئاً في دار الإذاعة وكانت أول تلاوة له في يوم 11 – 9 – 1941م وكانت من سورة المؤمنون، حيث كان البث في دار الإذاعة على الهواء مباشرة.
سافر الشيخ الحافظ خليل إسماعيل لعدة بلدان عربية، وقرأ في جوامعها الكبيرة والمشهورة، كالمسجد الأقصى في القدس، وفي مصر والكويت، واستطاع أن يلفت أنظار العديد من القراء، ومن بينهم القارئ المصري عبد الفتاح الشعشاعي، الذي يروى أنه قال عنه “إني لم أطرب ولم أسمع مثل الشيخ المقرئ الحافظ خليل”.
وصف قراءته
كانت قراءته تصويرية تؤثر بالسامعين والسبب في ذلك قوله: انني عندما اقرا القران الكريم اجعل امامي قول النبي ﷺ (حسِّنوا القرآنَ بأصواتِكم فإنَّ الصوتَ الحسنَ يزيدُ القرآنَ حُسْنًا) : وقوله ﷺ : (من لم يتغن بالقرآن فليس منا).
كانت هذه الأحاديث عن النبي محمد ﷺ من الأسباب التي تشجعه على القراءة وفق الانغام المقامية البغدادية الاصيلة.
توظيفه للمقام والنغم
على الصعيد الشخصي، اشتهر الحافظ خليل بأنه لم يكن يقرأ في المآتم أو المقابر، مما جعله مقدّرا عند عامة الناس، ومقصدا للشخصيات العامة، التي كانت تحضر إلى المساجد التي يجوّد فيها القرآن للاستماع إليه.
ولعمق الصلة بين أسلوب قراءة القرآن وفق الطريقة البغدادية وفن المقام، فقد لفت صوت الحافظ خليل العديد من الفنانين الكبار، ومن بينهم الراحل محمد القبانجي، الذي وصف الحافظ خليل بأنه “بستان الانغام العراقية الأصيلة”.
لقب الحافظ
في عام 1942م وجه الأستاذ الكبير نشأت السنوي دعوة إلى دار الإذاعة يدعوهم فيها إلى الرعاية والعناية بالمقرئين في دار الإذاعة وإلى توجيه الدعوة لجميع المقرئين في الإذاعة للحضور إلى ديوان مديرية الأوقاف لإجراء الاختبار والامتحان لمن يستحق إن يلقب بلقب الحافظ لأن كلمة الحافظ تعني معرفته لعلوم القرآن الكريم.
بعد إجراء الاختبار والتمحيص لم يكن موفقاً بذلك سوى الشيخ المقرئ المرحوم الحافظ سيد الجوادي الذي كان مقرئاً آنذاك في دار الإذاعة.
لذا فإن الشيخ المقرئ المرحوم الحافظ خليل إسماعيل الذي نحن بصدده لم ينل لقب الحافظ اعتباطاً أو مجرد صدفة بل ناله بجدارة واستحقاق عاليين وقد وصفه الأستاذ الكبير محمد القبانجي بأن الشيخ المقرئ المرحوم الحافظ خليل إسماعيل (بستان الانغام العراقية الأصيلة) حيث ان نغم ومقام الزنكران لم يجرؤ أحد من المقرئين ان يقرأه أبدا إلى يومنا هذا لصعوبة أدائه وترتيله في أحسن حاله، ولكن الشيخ المقرئ المرحوم الحافظ إسماعيل يقرؤه بكل إتقان ودقة متناهية.
وفي عام (1951 م) عندما زار شيخ المقرئين عبد الفتاح الشعشاعي، قال بحقه إني لم اطرب ولم أكن أسمع مثل الشيخ المقرئ الحافظ خليل وهذا التصريح مثبت في الصحف البغدادية التي نشرت هذا القول للشيخ الشعشاعي.
وفاة الحافظ خليل إسماعيل
في مطلع عام 2000م اشتد المرض على الشيخ الحافظ خليل ولم يمهله طويلاً، فدخل دار التمريض الخاص في 23-1-2000م وأجريت له عملية غسل لكليته، وبقي على هذه الحالة إلى يوم 3-7-2000م عندما دخل المستشفى لغسل الكلية للمرة السادسة والأخيرة، وافاه الأجل المحتوم بعد ظهر يوم الاربعاء 5-7-2000م وفي صباح اليوم التالي شيعت بغداد فقيدها الغالي من جامع المعز تشييعاً مهيباً إلى مثواه الأخير بمقبرة الكرخ في ابي غريب.
شارك في تشييعه مجموعة كبيرة من العلماء والاحباب والكتاب والشعراء ولفيف من المقرئين وجمع غفير من المواطنين الذين أتوا ليشاركوا مصابهم الاليم وهكذا انتقل الفقيد إلى الرفيق الأعلى واقيم مجلس العزاء على روحه الطاهرة من قبل أسرته في جامع عادلة خاتون في بغداد، فهنيئاً لمن أفنى حياته في ظل كتاب الله.
اقرا ايضا: الملا عثمان الموصلي.. عملاق المقام العراقي